فصل: تفسير الآية رقم (108)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِِمْ أَكِنَّةٌ أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراًْ‏}‏‏.‏

بيَّنَ أن السمعَ- في الحقيقة- سمعُ القبول، وذلك عن عين اليقين يصدر، فأما سَمْعُ الظاهر فلا عِبْرَةَ به‏.‏

ويقال مَنْ ابتلاه الحقُّ بقلبٍ مطبق، ووضع فوق بصيرته غطاءَ التلبيس لم يزدْه ذلك إلا نفرة على نفرة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِن يَرَوا كُلَّ آيةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ‏}‏‏.‏

يعني مَنْ أَقصَته القسمة الأزلية لم تنعشه الحيلة الأبدية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

في هذه الآية إشارة صعبة ‏(‏لمن‏)‏ يدعو إلى الحق جهراً ثم لا يأتي بذلك سراً‏.‏

ويقال خالَفَتْ أحوالُهم قضايا أقوالهم، وجرى إجرامُهم مجرى مَنْ ألقوا حِبالَهم على غاربهم، وكذلك من أبعده عن القسمة لم يقربه فعلُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

يعني حين ينجز للعبد ما وعده له من القربة يشغل من شاء بنوعٍ من العلة حتى لا يطلع أحد على محل الأسرار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

غداً يوم تنتهك الأستار، وتظهر الأسرار- فكم من مُجَلَّل بثوب تقواه، ويَحْكُم له معارفُه بأنه زاهدٌ في دنياه، راغب في عقباه، محبٌ لمولاه، مُفَارِقٌ لهواه، فَيُكْشَفُ الأمرعلى خلاف ما فهموه، ويفتضح عندهم بغير ما ظنوه‏.‏

وكم من متهتك ستر بما أظهر عليه‏!‏ ظنَّ الكلُّ أنه خليع العذار هيِّن الأعلال، مشوش الأسرار، فظهر لذوي البصائر جوهره، وبدت عن خفايا الستر حقيقته‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ‏}‏ أخبر عما علم أنه لا يكون أنه لو كان كيف كان يكون؛ فقال لو رُدَّ أهل العقوبة إلى دنياهم لعادوا إلى جحدهم وإنكارهم، وكذلك لو رُدَّ أهل الصفاء والوفاء إلى دنياهم لعادوا إلى حسن أعمالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

يا حسرة عليهم من موقف الخجل، محل مقاساة الوَجَل، وتذكر تقصير العمل‏!‏

فهم واقفون على أقدام الحسرة، يقرعون أسنان النجز حين لا ندم ينفعهم، ولا شكوى تُسْمَعُ منهم، ولا رحمة تنزل عليهم‏.‏

وحين يقول لهم‏:‏ أليس هذا بالحق‏؟‏ يُقِرُّونَ كارهين، ويصرخون بالتبري عن كل غَيْر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 33‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏31‏)‏ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏32‏)‏ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

خسران وأي خسران‏!‏ لم يخسروا مالاً، ولا مقاماً ولا حالاً، ولكن كما قيل‏:‏

لعمري لئن أنزفتُ دمعي فإنه *** لفرقِه مَنْ أفنيتُ في ذكره عمري

المصيبة لهم والحسرة على غيرهم، ومَنْ لم يَعْرِفْ جَلالَ قدره متى تأسَّف على ما يفوته من حديثه وأمره‏؟‏‏!‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏‏:‏ ما كان للنفس فيه حظ ونصيب اليوم فهو من الدنيا، وما كان من الدنيا فإنه- لا محالة- يُلهيك عن مولاك، وما يشغلك عن الحق ركونُه فغيرُ مباركٍ قُرْبُه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ‏}‏‏:‏ هذه تعزية للرسول- صلى الله عليه وسلم- وتسلية‏.‏ أي قد نعلم ما قالوا فيك وهم إنما قالوا ذلك بسَببِنَا ولأَجْلِنا‏.‏ ولقد كُنْتَ عظيمَ الجاه فيهم قبل أن أوقعنا عليكَ هذا الرقم؛ وكانوا يسمونك محمداً الأمين، فإنْ أصابَكَ ما يصيبك فَلأَجْلِ حديثنا، وغيرُ ضائعٍ لك هذا عندنا، وحالُكَ فينا كما قيل‏:‏

أشاعوا لنا في الحيِّ أشنع قصةٍ *** وكانوا لنا سِلْما فصاروا لنا حَربا

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

يعني إنَّ مَنْ سَلَكَ سبيلَنا صبر على ما أصابه من حديثنا، فلا خَسِرَتْ فينا صفقتُه، ولا خَفِيَتْ علينا حالتُه، وما قَابَلَ حُكْمَنَا مَنْ عَرَفَنَا إلا بالمُهج، وما حملوا ما لقوا فينا إلا على الحدق‏:‏

إنَّ الأُلى ماتوا على دين الهوى *** وجدوا المنيةَ منهلاً معسولا

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

لفرط شفقته- صلى الله عليه وسلم- استقصى في التماس الرحمة من الله لهم، وحمل على قلبه العزيز بسبب ما عَلِمَ من سوء أحوالهم ما أثَّر فيه من فنون الأحزان‏.‏ فعرَّفه أنهم مُبْعَدُون عن التقريب، منكوبون بسالف القسمة‏.‏

ولو أراد الحقُّ- سبحانه- لخَفَّفَ عنهم، ولو شاء أن يهديَهم لكان لهم مقيل في الصدور، ومثوى على النشاط، ولكن مَنْ كبَسَتْهُ العِزَّةُ لم تُنْعِشْه الحيلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

مَنْ فقد الاستماع في سرائره عَدِمَ توفيقَ الاتِّباعِ بظاهره، والاختيارُ السابقُ في معلومه- سبحانه- غالبٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

استزادوا من المعجزات وقد حصل من ذلك ما يذبح العذر، ولم يعلموا أن الله المانع لهم فلولا ما ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ من بصائرهم لما تواهموا من عدم دلائلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

يعني تساوت المخلوقات، وتماثلت المصنوعات في الحاجة إلى المُنْشِئ‏:‏ في حال الإبداع ثم في حال البقاء، وكذلك جميع الصفات النفسية والنعوت الذاتية توقفت عن الإيجاد والاختيار، فما من شيء من عينٍ وأثر، ورسم وطلل‏.‏‏.‏ إلا وهو على وحدانيته شاهِدٌ، وعلى كون أنه مخلوق‏.‏‏.‏ دليلٌ ظاهرٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏39‏)‏‏}‏

الذين فاتتهم العناية الأزلية سَدَّ الحرمانُ أسماعَهم، وغَشَّى الخِذلان أبصارَهم‏.‏ والإرادة لا تُعارَض، والمشيئةُ لا تَزَاحَم، والحقُّ- سبحانه- في جميع الأحوالِ غالبٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏40‏)‏ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

إذا مَسَّكم الضُرُّ، ونَابَكُم أمرٌ فمِمَّنْ ترومون كَشْفَه‏؟‏ ومَنْ الذي تؤملون لُطْفَه‏؟‏ أمخلوقاً شرقياً أم شخصاً غربياً‏؟‏ أم مَلَكاً سماوياً أم عبداً أرضياً‏؟‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ‏}‏‏:‏ أي إنكم- إنْ تذللتم بنفوسكم أو فكرتم طويلاً بقلوبكم- لن تجدوا من دونه أحداً، ولا عن حكمه مُلْتَحَداً، فتعودون إليه في استكشاف الضر، واستلطاف الخير والبرِّ، كما قيل‏:‏

ويرجعني إليك- وإن تناءتْ *** دياري عنكَ- معرفةُ الرجال

وقد تركناكَ للذي تريد *** فعسى إِنْ خَبَرْتَه أَنْ تعودا

فإذا جرَّبْتَ الكُل، وذُقْتَ الحُلْوَ والمُرَّ، أفضى بك الضُرُّ إلى بابه، فإذا رجعت بنعت الانكسار، وشواهد الذل والاضطرار، فإنه يفعل ما يريد‏:‏ إِنْ شاء أتاح اليُسْر وأزال العُسر، وإن شاء ضاعف الضُر وعوَّض الأجر، وإنْ شاء ترك الحال على ما ‏(‏قبل‏)‏ السؤال والابتهال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

يخبر عن سالف سنته في أبداء الأمم وما أوجب لمن أطاعه منهم من النعم والكرم، وما أحلَّ بمن خالفه من الألم وفنون النِّقَم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

يعني أنهم لما أَظَلَّهُم البلاء، فلو رجعوا بجميل التضرع وحسن الابتهال والتملق لكشفنا عنهم المحن، ولأتحنا لهم المنن، ولكن صدَّهم الخذلان عن العقبى فأصروا على تمردهم، فَقَسَتْ قلوبُهم وتضاعفت أسباب شقوتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلمّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏ يخبر عن خَفِيَ مكره بهم، وكيف أنه استدرجهم، ثم أذاقهم وبالَ أمرهم فقال‏:‏ لما طالتْ عن الحضرة غيبتُهم، ولم تنجحْ مواعظُنا فيهم سَهَّلْنَا لهم أسبابَ العوافي وصببنا عليهم عزالي النِّعم، وفتحنا لهم أبواب الرفاهية، فلما استمكن الرجاءُ من قلوبهم أخذناهم بغتةً وعذبنَاهم فجأة، وأذقناهم حسرةً فإذا هم من الرحمة قانطون، ولِمَا خامر قلوبَهم- من أسباب الوحشة عن الاستراحة بدوام المناجاة- آيسون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى لم يبقَ منهم عين ولا أثر، ولم يَرِدْ حديث منهم أو خبر، والله- سبحانه وتعالى- بنعت العِزِّ واستحقاق الجلال لا عن فَقْدِهم له استيحاش، ولا بوجودهم استرواح أَو استبشار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

عَرَّفهم محلَّ عجزهم، وحقيقة حاجتهم إلى القدرة القديمة لدوام فقرهم‏.‏

وحذَّرهم فقال‏:‏ إنْ لم يُدِمْ عليهم نعمة أسماعهم وأبصارهم، ولم يوجِبْ لهم ما ألبسهم من العوافي- بكل وجهٍ في كل لحظة- فمن الذي يهب ما سلبه، أو يضع ما منعه، أو يعيد ما نفاه، أو يَرُدُّ ما أبداه‏؟‏ كلا *** بل هو الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

يقول إِنْ عجَّلَ موعودَه لكم من العقاب أفترون أن غيرَ المستوجِب يُبْتَلى‏؟‏ أو أن المستحِقَّ له يجد من دونه مهرباً ومَنْجَى‏؟‏ إِنَّ هذا محالٌ من الظن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏48‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

يعني ليس أمرنا لهم إلا بالتزام ما فيه نجاتهم، ثم بجميل الوعد لهم، ومفارقة ما فيه هلاكهم، ثم بأليم العقوبة في الآجل ما يحل من خلافهم‏.‏

فَمَنْ آمن وصدَّق أنجزنا له الوعد، ومَنْ كفر وجحد عارضنا عليه الأمر، وأدخلنا عليه الضُّر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يعني قل لهم إني لا أتخطى خطي، ولا أتعدَّى حدِّي، ولا أُثْبِتُ من ذات نفسي شيئاً، وإنما يقال لي أَبلَّغْتَ‏؟‏ وأقول‏:‏ أَجَلَ، أَوْصَلْتُ‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالبَصِيرُ‏}‏‏:‏ هل يتشاكل الضوءُ والظلام‏؟‏ وهل يتماثل الجُحْدُ والتوحيد‏؟‏ كلا *** لا يكون ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

الإنذارُ إعلامٌ بمواضع الخوف، وإنما خص الخائفين بالإنذار كما خصَّ المتقين بإضافة الهدى إليهم حيث قال‏:‏ ‏{‏هُدًى لِلمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ لأن الانتفاع والاتِّباع بالتقوى، والإنذار اختص بهم‏.‏

ويقال‏:‏ الخوف ها هنا العلم، وإنما يخاف من علم، فأمَّا القلوب التي هي تحت غطاء الجهل فلا تباشرها طوارقُ الخوف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ شَفِيعٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 4‏]‏ يعني كما أنه لا ناصر لهم من الأغيار فلا معتمدَ لهم من أفعالهم، ولا مستندَ من أحوالهم، ولا يؤمنون شيئاً سوى صرف العناية وخصائص الرحمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

هذه وصية له- صلى الله عليه وسلم- في باب الفقراء والمستضعفين، وذلك لما قَصَرُوا لسان المعارضة عن استدفاع ما كانوا بصدده من أمر إخلاء الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- مجلسه منهم، وسكنوا متضرعين بقلوبهم بين يدي الله أرادَ أنْ يُبَيِّن له أَثرَ حُسْنِ الابتهال فتولَّى- سبحانه- خصيمتهم‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏‏:‏ لا تنظر يا محمد إلى خِرقتهم على ظاهرهم وانظر إلى حرقتهم في سرائرهم‏.‏

ويقال كانوا مستورين بحالتهم فشهرهم بأن أظهر قصتهم، ولولا أنه- سبحانه- قال‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ فشهد لهم بالإرادة وإلا فمن يتجاسر أن يقول إن شخصاً مخلوقاً يريد الحق سبحانه‏؟‏

ويقال إذا كانت الإرادة لا تتعلق- في التحقيق- إلا بالحدوث، وحقيقة الصمدية متقدسة عن الاتصاف بالحدثان، فمن المعلوم أن هذه الإرادة ليست بمعنى المشيئة، ولا كاشتقاق أهل اللغة لها‏.‏

فيقال تكلم الناس في الإرادة‏:‏ وأكثر تحقيقها أنها احتياج يحصل في القلوب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله؛ فصاحب الإرادة لا يهدأ ليلاً ولا نهاراً، ولا يجد من دون وصوله إليه- سبحانه- سكوناً ولا قراراً، كما قال قائلهم‏:‏

ثم قطعتُ الليلَ في مَهْمَةٍ *** لا أسداً أخشى ولا ذيبا

يغلبني شوقي فأطوي السُّرى *** ولم يَزَلْ ذو الشوق مغلوبا

ويقال تقيَّدت دعوتهم بالغداة والعشيّ لأنها من الأعمال الظاهرة، والأعمالُ الظاهرة مؤقتة، ودامت إرادتهم فاستغرقت جميع أوقاتهم لأنها من الأحوال الباطنة، والأحوال الباطنة مسرمدة غير مؤقتة، فقال‏:‏ ‏{‏يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِىِّ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ أي مريدين وجهه فهي في موضع الحال‏.‏

ويقال أصبحوا ولا سؤال لهم من دنياهم، ولا مطالبة من عقباهم، ولا همَّ سوى حديث مولاهم، فلما تجردوا لله تمحضت عناية الحق لهم، فتولَّى حديثهم وقال‏:‏ ولا تطردهم- يا محمد- ثم قال‏:‏ ما عليك من حسابهم من شيء؛ فالفقير خفيف الظهر لا يكون منه على أحد كثير مؤنة؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَئٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَئٍ‏}‏ لا تطالب بحسابهم ولا يطالبون بحسابك، بل كلٌّ يتولى الحقُّ- سبحانه- حسابَه؛ فإِن كان أمره خيراً فهو ملاقيه، وإن كان شراً فهو مقاسيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

أمَّا الفاضل فَلْيشكرْ، وأمَّا المفضول فليَصْبِرْ‏.‏

ويقال سبيل المفضول على لسان المحبة الشكر، ولا يتقاصر شكره عن شكر الفاضل، قال قائلهم في معناه‏:‏

أتاني منكِ سبُّكِ لي فَسُبِّي *** أليس جَرَى بفيكِ اسمي‏؟‏ فَحَسْبِي

وقال آخر‏:‏

وإِنَّ فؤاداً بِعْتُه- لَكَ شاكرٌ *** وإِنَّ دَمَاً أجريتُه- لَكَ حامدُ

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنًُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ‏}‏‏.‏

أحلَّه محل الأكابر والسَّادة، فإن السلام من شأن الجائي إلا في صفة الأكابر؛ فإن الجائي أو الآتي يسكت لهيبة المأتي حتى يبتدئ ذلك المقصودُ بالسؤال، فعند ذلك يجيب الآتي‏.‏

ويقال إذا قاسوا تعبَ المجيء فأزِلُ عنهم المشقةَ بأن قُلْ‏:‏ ‏{‏سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ‏}‏‏.‏

ويقال السلام هو السلامة أي فَقُلْ لهم سلام عليكم؛ سَلِمْتُمْ في الحال عن الفُرقة وفي المآل عن الحُرْقة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏‏.‏

إِنْ وَكَلَ بك من كتب عليك الزلة فقد تولَّى بنفسه لك كتابة الرحمة‏.‏

ويقال كتب بمعنى حَكَمَ، وإنه ما حكم إلا بما علم‏.‏

ويقال كتابته لك أزلية، وكتابته عليك وقتية، والوقتية لا تبْطِلُ الأزلية‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

يعني مَنْ تعاطى شيئاً من أعمال الجُهَّال ثم سوَّف في الرجوع والأوبة قابلناه، يعني مَن تعاطى شيئاً بحسن الإمهال وجميل الأفضال، فإذا عاد بتوبة وحسرة أقبلنا عليه بِكُلِّ لطف وقبول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

نزيل الإشكال، ونُفْصِحُ طريق الاستدلال، ونُطْلِعُ شموسَ التوحيد، ونمد أهله بحسن التأييد، ونَسِمُ قلوبَ الأعداء بوسم الخذلان، ونذيقهم شؤمَ الحرمان لئلا يبقى لأحدٍ عذرٌ، ولا في الطريق إشكال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

يعني صرِّح بالاعتراف بجميل ما خصصناكَ به من وجوه العصمة والنعمة، وأخبرهم أنك في كنف الإيواء مُتقلَّب، وفي قبضة ‏(‏الصون‏)‏ مُصَرَّفٌ؛ فلا للهوى عليك سلطان، ولا لك من محل التحقيق تباعد أو عن الحضور غيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قلْ إنَّ الله- سبحانه- لم يغادرني في قطر الطلب والتباس التحيَّر، وأغناني عن ‏(‏كَدِّ‏)‏ الاستدلال، وَروَّحَني بشموس الحقيقة‏.‏ ولئن بقيتم في ظلمة الالتباس فليس لي قدرة على إزالة ما مُنيتم به من التحير، ونفي ما امتُحِنْتُم به من الجهالة والتردد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏58‏)‏ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

لو قدرتُ على إبداء ما طلبتم من إقامة البراهين لأجبتكم إلى كل ما اقترحتم عليَّ- شفقةً عليكم، لكن المتفرِّد بالحكم لا يُعَارَضُ فيما يريد‏.‏

‏{‏وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ‏}‏‏:‏ المفتاح ما به يرتفع الغَلْقُ، والذي يحصل مقصود كلِّ أحد، وهو قدرة الحق- سبحانه؛ فإنَّ التأثير لها في الإيجاد، والموصوفُ بقدرةِ الإيجاد هو الله‏.‏

ويقال أراد بهذا شمول علمه، أي هو المتفرِّد بالإحاطة بكل معلوم، وقطعاً لا يُسأَل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء‏.‏

ويقال عندك مفاتح الغيب وعنده مفاتح الغيب فإنْ آمنتَ بغيبه مدَّ الشمس على غيبك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

إنه يتوفَّى الأنفس في حال النوم وفي حال الوفاة، وكما أنه لا يعاقبك بالليل فإنه لا يعذبك- إذا توفَّاك- على ما جرحت بالنهار مع علمه بأفعالك، فبالحريِّ ألا يعذِّبَك عداً- إذا توفَّاك- على ما علمه من قبيح أحوالك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

فوق عباده بالقهر والرفعة، وفوقهم بالقدرة على أن يُعَذِّبهم من فوقهم بإنزال العقوبة عليهم والسخطة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

ردَّهم إلى نفسه‏.‏ وما غابوا عن القبضة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

تذكير النعمة يوجب الزيادة في المحبة، فإنه إذا عرف جميلاً أسداه تمكَّن من قلبه الحبُّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

المتفرِّدُ بالقدرة على إيجادكم اللهُ، والذي هو ‏(‏الخَلَفَ‏)‏ عما يفوتكم اللهُ، والذي حكَمَ بنجاتكم اللهُ، والذي يأخذ بأيديكم كلما عَثرْتم اللهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجَلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً‏}‏‏.‏

إذا أراد الله هلاك قومٍ أمر البلاء حتى يحيط بهم سرادقه كما يحيط بالكفار غداً إذا أدركتهم العقوبة، وخرج بعضهم على بعض؛ حتى يتبرأ التابع من المتبوع، والمتبوع من التابع‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

لا طعمَ أردأ للإنسان من طعم الإنسان‏:‏ إن شِئْتَ من الولاية والمحبة، وإن شئت في العداوة والبغضة؛ فَمَنْ مُنِي بالبغضة مع أشكاله تنغَّصَ عليه عَيْشُه في الدنيا، ومَنْ مُنِيَ بمحبة أمثاله تكدَّر عليه حالُه مع المولى، ومن صانَه عن الخلق فهو المحفوظ ‏(‏المعاني‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 67‏]‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

يعني قل لهم إنما على تبليغ الرسالة، فأمَّا تحقيق الوصلة بالوجود والحال فَمِنْ خصائص القدرة وأحكام المشيئة الأزلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏‏.‏

لا توافقهم في الحالة، ولا ترد عليهم ببسط القالة‏.‏ ذَرْهُم ووحشتَهم بِحُسْنِ الإعراض عنهم، والبعد عن الإصغاء إلى تهاويشهم بحُسْنِ الانقباض‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

أي إنْ بَدَرَ منك تغافلٌ فتداركْتَه بحسن التذكر وجميل التَّنَبُّه، فاجتهِدْ ألا ‏(‏تزل‏)‏ في تلك الغلطة قدمُك ثانيةً لئلا تقاسي أليمَ العقوبة مِنّا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

أي من كان نقيَّ ‏(‏الثوب‏)‏ عن ارتكاب الإجرام يُعْزَل يوم نشره عن ملاقاة تلك الآلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

أي كِلْهم وما اختاروه فإِنَّا أَعْتَدْنَا لهم ‏(‏من خفيِّ المكر ما إذا أحللناه بهم كسرنا عليهم‏)‏ خُمار الوهم والغِلظة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

أي كان الكفار يدعون المسلمين إلى الرجوع عن الدين والعوْد إلى الشِرْك، فقال لهم الله‏:‏ قل لهم- يا محمد-‏:‏ أَنُؤْثِرُ الضلالَ على الهدى بعد طلوع شمس البرهان‏؟‏

ونَدَعُ الطريقة المُثْلى بعد ظهور البيان‏؟‏ ونترك عِقوةَ الجَنَّةِ وقد نزلناها‏؟‏ ونطلب الجحيم مثوًى بعد ما كُفِيناها‏؟‏ إنَّ هذا بعيدٌ من المعقول، محالٌ من الظنون‏.‏

وكيف يساعد أتباعُ الشيطانِ مَنْ وَجَدَ الخلاصَ من صحبتهم، وأبصر الغيَّ من صفتهم‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

أي أَمَرَنا بملازمة محل المناجاة لأن اللسان إِنْ تعوَّد نجوى السلطان متى ينطق ‏(‏بمكالمه‏)‏ الأخَسِّ‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

يعني أنه لا يعترض على قدرته- سبحانه- حدوث مقصود، ولا يتقاصر حكمه عن تصريف موجود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

الأصل متَّهَمٌ في الجحود، والنَّسْلُ متَّصِفٌ بالتوحيد، والحقُّ- سبحانه- يفعل ما يريد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

لاطَفه بسابق العناية، ثم كاشفه بِلاحِق الهداية فأراه من دلالات توحيده ما لم يبق في قضاء سِرِّه شظية من غبار العيب، فلمَّا صحا من غيم التجوز سما سِرُّه فقال بنفي الأغيار جملةً، وتبرَّأ عن الجميع ولم يغادر منها تهمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 78‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ‏(‏76‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ‏(‏77‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

يعني أحاطت به ‏(‏سجوف‏)‏ الطلب، ولم يتجل له بعد صباح الوجود، فطلع نجم العقول فشاهد الحق بسره بنور البرهان، فقال‏:‏ هذا ربي ثم يزيد في ضيائه فطلع له قمر العلم فطالعه بشرط البيان، فقال‏:‏ ‏{‏هَذَا رَبِّى‏}‏‏.‏

ثم أسفر الصبح ومتع النهار فطلعت شموس العرفان من برج شرفها فلم يبقَ للطلب مكان، ولا للتجويز حكم، ولا للتهمة قرار فقال‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ إِنِّى بَرِئٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ إذ ليس بعد العيان ريب، ولا عَقِبَ الظهور ستر‏.‏

ويقال قوله- عند شهود الكواكب والشمس والقمر- ‏{‏هَذَا رَبِّى‏}‏ إنه كان يلاحظ الآثار والأغيار بالله، ثم كان يرى الأشياء لله ومن الله، ثم طالع الأغيار محواً في الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

أفردتُ قصدي لله، وطهَّرت عقدي عن غير الله، وحفظت عهدي في الله لله، وخلصت وجدي بالله، فإني لله وبالله، بل محو في الله والله لله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

يعني قال لهم أترومون سَتْرَ الشموسِ بإسبال أكمامكم عليها أو تريدون أن تجروا ذيولكم وأن تُسْدِلوا سجوفَكم على ضياء النهار وقد تعالى سلطانُه وتوالى بيانُه‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

يعني وأي خوفٍ يقع على قلبي ظِله ولم أُلِمْ بِشِرْكٍ ولم أَجْنَحْ قطُّ إلى جحد‏؟‏ وأنتم ما شممتم رائحة التوحيد في طول عمركم، ولا ذقتم طعم الإيمان في سالف دهركم‏!‏ ثم بسوء ظنِّكم تجاسرتم وما ارعويتم، وخسرتم وما باليتم‏.‏ فأيُّنَا أَوْلى أن يُعْلِن بسرِّه ما هو بصدده من سوءِ مَكْرِه وعاقبةِ أَمْرِه‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

أي الذين أشاروا إلى الله ثم لم يرجعوا إلى غير الله؛ فإن من قال «الله» ثم رجع بالتفضيل- عند حاجاته أو مطالباته أو شيءٍ من حالاته إلى غير الله فخِصْمُه- في الدنيا والعقبى- اللهُ‏.‏

والظلمُ- في التحقيق- وضعُ الشيء في غير موضعه، وأصعبه حسبان أن من الحدثان ما لم يكن وكان؛ فإِنَّ المنشئَ اللهُ، والمُجْرِىَ اللهُ، ولا إله إلا الله، وسقط ما سوى الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏83‏)‏‏}‏

أشار إلى ترقِّيه من شهود آياته إلى إثبات ذاته، وذلك ترتيب أهل السلوك في وصولهم إلى الله، فالتحقيق بالآيات التي هي أفعاله ومراعاة ذلك وهي الأولى؛ ثم إثبات صفاته وهي الثانية، ثم التحقق بوجوده وذاته وهو غاية الوصول، فبرسومه يعرف العبد نعوته، وبنعوته يعرف ثبوته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 88‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏84‏)‏ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏85‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏86‏)‏ وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏87‏)‏ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

ذَكَرَ عظيم المِنَّة على كَافَّتِهم- صلوات الله عليهم، وبَيَّنَ أنه لولا تخصيصه إياهم بالتعريف، وتفضيله لهم على سواهم بغاية التشريف، وإلا لم يكن لهم استيجاب ولا استحقاق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ هُدَى اللهِ‏.‏‏.‏ *** يَعْمَلُونَ‏}‏ يعني لو لاحظوا غيراً، أَو شاهدوا- من دوننا- شيئاً، أو نسبوا شظية من الحدثان- إلى غير قدرتنا- في الظهور لتلاشى ما أسلفوه من عرفانهم وإحسانهم، فإن الله- سبحانه- لا يغفر الشِرْكَ بحالٍ، وإن كان ‏(‏يغفر‏)‏ ما دونه لِمنْ أراد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

يعني إِنْ أعرض قومُك- يا محمد- فليس كلُّ من ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ على الجحود أظهرناهم، بل كثير من عبادنا نزَّهنا- عن الجحود- قلوبَهم، وعَجَنَّا بماء السعادة طينتهم وهم لا يحيدون عن التوحيد لحظةً، ولا يزيغون عن التحصيل شمَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

أولئك الذين طهَّر اللهُ عن الجحد أسرارَهم، ورَفَعَ على الكافة أقدارَهم، فاقْتَفِ- يا محمد- هداهم، فإنّ مَنْ سلك الجادَّة أَمِن من العناء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

مَنْ توهَّم أَنْ العلومَ تحيط بجلاله فالإحاطة غير سائغة في نعته، كما أنَّ الإدراك غير جائزٍ في وصفه، وكما أن الإشراف مُحالٌ على ذاته‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا‏}‏ أي سَلْهم عن الأحوال، وخاطِبْهم في معاني أحكام الرسول والأطلال، فَإِنْ بقوا في ظلمة ‏(‏الحيرة‏)‏ فَقُلْ‏:‏ الله تعالى، ثم ذَرْهُم‏.‏ يعني صَرِّح بالإخبار عن التوحيد، ولا يهولنَّك تماديهم في الباطل، فإنَّ تمويهاتِ الباطلِ لا تأثير لها في الحقائق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

كتابُ الأحبابِ عزيزُ الخَطَرِ جليلُ الأَثَرِ، فيه سلوة عند غلبات الوجد، ومن بقي عن الوصول تذلَّل للرسول، وقيل‏:‏

وكُتْبُك حولي لا تفارق مضجعي *** وفيها شفاءٌ للذي أنا كاتِمُ

كأني ملحوظٌ من الجِنِّ نظرةً *** ومِنْ حواليَّ الرُّقى والتمائمُ

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

يعني إن الذين يَنْزِلُون منزلة المُحدَّثين، ولم تُلق إلى أسرارهم خصائصُ الخطاب- فالحقُّ- سبحانه عنهم بريء‏.‏ والمتَّبعُ بما لم يَسَلْ كلابسِ ثوبي زور، وفي معناه أنشدوا‏:‏

إذا اشتبكت دموع في خدود *** تبيَّن مَنْ بكى ممن تباكى

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

دَخَلْتَ الدنيا بخرقةٍ، وخَرَجْتَ منها بخرقة، أَلاَ وتلك الخرقة أيضاً ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وما دخلت إلا بوصف التجرد، ولا خرجتَ إلا بحكم التفرد‏.‏ ثم الأثقالُ والأوزارُ، والأحمالُ والأوضارُ لا يأتي عليها حَصْرٌ ولا مقدار؛ فلا ما لكم أغني عنكم ولا حالكم يَرْفُعُ منكم، ولا لكم شفيعٌ يخاطبنا فيكم؛ فقد تَقَطَّعَ بَيْنُكم، وتَفرَّق وَصْلُكم، وتبدَّد شملُكم، وتلاشى ظنُّكم، وخانكم- في التحقيق- وسعُكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

موجِد ما في العالَم من الأعيانِ والآثار والرسوم والأطلال يُسَلِّط العَدَمَ على ما يريد من مصنوعاته، ويحكم بالبقاء لما يريد من مخلوقاته، فلا لحكمه ردٌّ، ولا لحقِّه جحدٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏96‏)‏‏}‏

وكما فَلَقَ صبحَ الكون فأشرقَتْ الأنوارُ كذلك فَلَقَ صبحَ القلوبِ فاستنارت به الأسرار، وكما جعل الليل سَكَناً لِتَسْكَنَ فيه النفوس من كدِّ التصرف عن أسباب المَعَاش كذلك جعل الليلَ سَكَناً للأحباب يَسْكَنونَ فيه إلى روح المناجاة إذا هدأت العيونُ من الأغيار‏.‏

وجعل الشمس والقمر يجريان بحسبان معلوم على حد معلوم، فالشمس بوصفها مذ خُلِقَت لم تنقص ولم تزِدْ، والقمر لا يبقى ليلةً واحدةً على حالة واحدة فأبداً في الزيادة والنقصان، ولا يزال ينمو حتى يصير بدراً، ثم يتناقص حتى لا يُرى، ثم يأخذ في الظهور، وكذلك دأبُه دائماً إلى أَنْ تُنْقضَ عليه العادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

كما أن نجوم السماء يُهتدى بها في الفلوات فكذلك نجوم القلوب يهتدى بها في معرفة ربِّ الأرضين والسموات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

ذكَّرهم وصفهم حين خَلَقَهم من آدم عليه السلام‏.‏ وكما أن للنفوس والأبشار مستقراً ومستودعاً فللأسرار والضمائر مستقر ومستودع، فَمِنْ عَبْدٍ مُسْتَقَرٌّ قلبِه أوطانُ الشهواتِ والمنى، ومن عبدٍ مستقره موقع الزهد والتُّقى، ومن عبدٍ مستقره- حيث لا مسكن ولا مأوى- وراء الورى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

تجانست أجزاءُ الأرض وتوافقت أقطارُ الكون، وتباين النبات في اللون والطَّعم واختلفت الأشياء، ودلَّ كلُّ مخلوقٍ بلسان فصيح، وبيان صريح أنه بنفسه غير مُستَقِل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

سُدَّت بصائرهم فاكتفوا بكل منقوصٍ أن يعبدوه، وتلك عقوبةٌ لأرباب الغفلة عن الله تعالى عُجِّلَتْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏‏}‏

البديع الذي لا مثل له، أو هو المنشئ لا على مثال، وكلاهما في وصفه مستحق‏.‏

والواحد يستحيل له الوَلَدُ لاقتضائه البعضية، والتوحيد ينافيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

تعرَّف إليهم بآياته، ثم تعرَّف إليهم بصفاته، ثم كاشفهم بحقائق ذاته‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ‏}‏ تعريف للسادات والأكابر، وقوله‏:‏ ‏{‏خَالِقُ كُلِّ شَئٍ‏}‏ تعريف للعوام والأصاغر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏103‏)‏‏}‏

قدَّسَ الصمديةَ عن كل لحوقٍ ودَرَك، فأنَّى بالإدراك ولا حدَّ له ولا طرف‏؟‏‏!‏

‏{‏وَهُوَ اللَّطِيفُ‏}‏ الذي لا يخفى عليه شيء، ‏{‏الخَبِيرُ‏}‏ الذي أحاط علمُه بكل معلوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏104‏)‏‏}‏

أوضحَ البيانَ وأَلاَحَ الدليلَ، وأزاحَ العِلَل وأنارَ السبيلَ، ولكن قيل‏:‏

وما انتفاعُ أخي الدنيا بمقلته *** إذا استوت عنده الأنوارُ والظُّلَمُ

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

أوقع الفتنةَ في قلوبهم فَخَنِسَتْ عليهم الأحوال‏:‏ فَمِنْ شُبْهةٍ دَاخَلْتُهم ومن حَيْرةٍ مَلَكَتْهُم‏.‏ ومن تحقيق أدركه قوم، وتعريفٍ توقف على آخرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏

العَجَبُ ممن أقرَّ بقصور حاله عن استحقاق المدح ببقائه عن مراده، وكيف يصف معبوده بجواز ألا يرتفع في ملكه مراده‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلّمِ‏}‏‏.‏

يعني خَاطِبْهم بلسان الحجة والتزام الدلائل ونفي الشبهة، ولا تُكلِّمْهم على موجب نوازع النَّفْس والعادة، فَيَحْمِلَهم ذلك على ترك الإجلال لذكر الله‏.‏

ويقال لا تطابِقْهُم على قبيح ما يفعلون فيزدادوا جرأة في غيِّهم، فسيكون فِْلُكَ سبباً وَعِلَّةً لزيادةِ كفرهم وفِسْقهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

لبَّسْنا عليهم حقائق الأشياء حتى ظنوا القبيحَ جميلاً، ولم يَرَوْا لسوءِ حالتهم تبديلاً، فركنوا إلى الهوى، ولم يميزوا بين العوافي والبَلا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

وعدوا من أنفسهم الإيمان لو شاهدوا البرهان، ولم يعلموا أنهم تحت قهر الحكم، وما يُغْنِي وضوحُ الأدلة لمن لا تساعده سوابقُ الرحمة، ولواحق الحفظ بموجبات القسمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

العَجَبُ ممن تبْقَى على قلبه شبهةٌ في مسألة القَدَر، والحقُّ- سبحانه- يقول‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَم يُؤْمِنُوا بِهِ‏}‏، لا بل من حقائق التقليب بقاء إشكال هذا الأمر- مع وضوحه- على قلوب مَنْ هو مِنْ جملة العقلاء، فسبحان مَنْ يُخْفِي هذا الأمر مع وضوحه‏!‏ هذا هو قهر القادر وحكم الواحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

لأن الآيات وإنْ توالت، وشموس البرهان وإنْ تعالَتْ فَمَنْ قَصَمَتْه العِزَّةُ وكَبَسْته القِسمة لم يَزِدْه ذلك إلا حيرة وضلالاً، ولم يستنجز إلا للشقوة حالاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

كلمَّا كان المحلُّ أعلى كانت البلايا أوفى، والمطالبات أقوى، فلمَّا كانت رتبُ الأنبياء- عليهم- السلام- أشرفَ كانت العداوة معهم أشد وأصعب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

وكلت أسماع الكفار باللغو وقلوبهم بالسوء فَرَضُوا لأنفسهم أخَسَّ الأنصباءَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

قلْ لهم أترون أني- بعد ظهور البيان ووضوح البرهان- أَذَرُ اليقين، وأوثر التخمين وأفارق الحقَّ، وأقارن الحظ‏؟‏ إن هذا محال من الظن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏115‏)‏‏}‏

تقدَّسَتْ عن التغيير ذاتُه، وتنزهت عن التبديل صفاتُه‏.‏ والتمام ينفي النقصان‏.‏ وكلُّ نقصانٍ فمن الحَدَثِ أصلُه، وأَنَّى بالنقص- والقِدَمُ وصفُه‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

أهلُ الله قليلون عدداً وإن كانوا كثيرين وزناً وخَطَراً، وأمَّا الأعداء ففيهم كثرة‏.‏ فإنْ لاحظْتَهُم- يا محمد- فَتَنُوكَ، وإنْ صاحبتهم منعوك عن الحق وقلبوكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

تقاصرت علومُ الخَلْق عن إدراك غيبه إلا بقدر ما عَرَّفهم من أمره، والذي لا يخفى عليه شيءٌ فهو الواحدُ- سبحانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

هذا في حكم التفسير مختص بالذبيحة، وفي معنى الإشارة منع الأكل على الغفلة، فإِن من أكل على الغفلة فما دامت تلك القوةُ باقيةً فيه فخواطره إما هواجس النَّفْس أو وساوس الشيطان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 119‏]‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

يعني أي شيء عليكم لو تركتم الغفلة‏؟‏ وما الذي يضركم لو استدمتم الذكر‏؟‏

وقد تبيَّن لكم الفَرْقُ بين أُنْس الذكر ووحشة الغفلة في الحال والوقت، أَلاَ تعرفوا حكم الثواب والعقاب في المآل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 120‏]‏

‏{‏وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

ظاهر الإثم ما للأغيار عليه اطلاع، وباطن الإثم هو سرٌ بينك وبين الله، لا وقوفَ لمخلوقٍ عليه‏.‏

ويقال باطن الإثم خَفِيُّ العقائد و‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الألحاظ‏.‏

ويقال باطن الإثم ما تمليه عليك نفسك بنوع تأويل‏.‏

ويقال باطن الإثم- على لسان أهل المعرفة- الإغماض عَمَّا لَك فيه حظ، ويقال باطن الإثم- على لسان أهل المحبة- دوام التغاضي عن مطالبات الحق؛ وإنَّ بِناءَ مطالبات الحب على التجني والقهر، قال قائلهم‏:‏

إذا قلتُ‏:‏ ما أذنبتُ‏؟‏ قالت مجيبةً‏:‏ *** حياتُك ذنبٌ لا يقاس به ذنبُ

ويقال أسبغتُ عليكم النِّعم ظاهراً وباطناً، فذروا الإثم ظاهراً وباطناً، فإنَّ من شرط الشكر ترك استعمال النعمة فيما يكون إثماً ومخالفة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 121‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

ما كانت ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ من الأحوال عاصياً ولربِّه ناسياً فتوقِّيه شرط عند أصحاب ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ‏}‏ فهذا يدل على أنَّ مَنْ توقَّى ذلك اتحدت لله خواطِرُه، وانقطعت عنه خواطر الشيطان‏.‏ وأصلُ كل قسوةٍ متابعةُ الشهوات، ومَنْ تعوَّد مُتَابَعَتها فليودِّعْ صفوةَ القلب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

الإيمان عند هؤلاء القوم حياةُ القلب بالله‏.‏ وأهل الغفلة إذْ لَهُمْ الذكر فقد صاروا أحياءً بعد ما كانوا أمواتاً، وأربابُ الذكرِ لو اعتراهم نسيانٌ فقد ماتوا بعد الحياة‏.‏ والذي هو في أنوار القرب وتحت شعاع العرفان وفي روْح الاستبصار لا يدانيه مَنْ هو في ‏(‏أسْرِ‏)‏ الظلمات، ولا يساويه مَنْ هو رهين الآفات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 123‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

لبَّسنا عليهم حقائق التوحيد، وسوَّلت لهم ظنونهم أن بهم شظية من المحو والإثبات؛ فانهمكوا ظانين أنهم يَمْكرون، وهم في التحقيق مخادعون، وسيعلمون حين لا ينفعهم علم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

بعد إزاحة العلة، وبيان الحجة، وزوال الشبهة ‏(‏فالتعلُّل‏)‏ باستزادة البصيرة إعلام عن سوء الأدب، وذلك منهم من التعدي؛ لمساواة مَنْ جاء بالاستحقاق بمَنْ جاء بنوع من تسويلات النَّفْس يوجب مقاساة الهوان‏.‏ وملازمةُ الحدود‏.‏ وتركُ التعدي على الحقِّ قضيةُ التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ‏}‏‏.‏

المُسْلِمُ لا يتحرك في باطنه عِرْقٌ للمنازعة مع التقدير، فإن الإسلام يقتضي تسليم الكل بلا استئثار، ومَنْ استثقل شيئاً من التكليف أو بقي منه نَفَسٌ لكراهية شيء فيعدُّ غير مستسلمٍ لحُكْمِه‏.‏

ويقال نورٌ في البداية هو نور العقل، ونورٌ في الوسائط هو نور العلم ونور في النهاية هو نور العرفان؛ فصاحب العقل مع البرهان، وصاحب العلم مع البيان، وصاحب المعرفة حكم العيان‏.‏

ويقال مَنْ وَجَدَ أنوار الغيب ظهرت له خفايا الأمور فلا يشكل عليه شيء من ذوات الصدور عند ظهور النور، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى»‏.‏

ويقال أول أثر لأنوار الغيب في العبد يُنَبِّهه إلى نقائص قَدَرِه ومساوئ غيِّه، ثم يشغله عن شهود نفسه مما يلوح لقلبه من شهود ربه، ثم غَلَباتُ الأنوار على سِرِّهِ حتى لا يشهد السرَّ بعد ما كان يشهد؛ كالنَّاطِر في قُرصِ الشمس تُسْتَهْلَكُ أنوار بصره في شعاع الشمس كذلك تستهلك أنوار البصيرة في حقائق الشهود، فيكون العبد صاحب الوجود دون الشهود ثم بعده خمود العبد بالكلية، وبقاء الأحدية بنعت السرمدية‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرّجْسَ عَلَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

وذلك حتى لا يسعى في غير مراد الحق سبحانه، وحدُّ البشرية ضيق القلب، وصاحبه في أسْرِ الحدثان والأعلال، ولا عقوبةَ أشدُّ من عقوبة الغفلة عن الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

الصراطُ المستقيمُ إقامة العبودية عند تحقق الربوبية فهو فرق مؤيَّدٌ بجمع، وجمعٌ مقيدٌ بشرع، وإثباتٌ للعرفان بغاية الوسع، ونبو عن المخالفات بغاية الجهد، والتحقق بأنَّ المُجْرِي واحدٌ لا شريك له، ثم تركُ الاعتماد ونفي الاستناد، لا على ‏(‏حركاته‏)‏ يعتمد، ولا إلى سكناته يستند، ‏(‏بل‏)‏ ينتظر ما يفتح به التقدير، فإِن زاغَ صاحبُ الاستقامة لحظةً، والتفت يمنةً أو يسرةً سقط سقوطاً لا ينتعش‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏‏.‏

دار السلام أي دار السلامة، ومَنْ كان في رِقِّ شيء من ‏(‏الأغراض‏)‏ والمخلوقات لم يجد السلامة، وإنما يجد السلامة مَنْ تحرر عن رِقِّ المُكُوِّنَات، والآية تشير إلى أنَّ القومَ في الجنة لكنهم ليسوا في أَسْرِ الجنة، بل تحرروا من رِقِّ كل مُكَوَّن‏.‏

ويقال مَنْ لم يُسلِّمْ- اليوم- على نفسه وروحه وكلِّ مالَه من كل كريمة وعظيمة تسليمَ وداعٍ لا يجد- غداً- ذلك الفضْل، فمن أراد أن يُسلِّم عليه ربُّه- غداً- فَلْيُسَلِّمْ على ‏(‏الكون‏)‏ بجملته، وأولاً على نفسه وروحه‏.‏

ويقال دار السلام غداً لمن سَلِمَ- اليوم- لسانُه عن الغيبة، وجَنانه عن الغيبة، وأبشاره وظواهره من الزَّلَّة، وأسراره وضمائره من الغفلة، وعقله من البدعة، ومعاملته من الحرام والشبهة، وأعماله من الرياء والمصانعة، وأحواله من الإعجاب‏.‏

ويقال شرفُ قَدْرِ تلك الدار لكونها في محل الكرامة، واختصاصها بِعِنْدية الزُّلفة، وإلا فالأقطار كلها ديار، ولكن قيمة الدار بالجار، قال قائلهم‏:‏

إنِّي لأحسد داراً في جِوارِكمُ *** طوبى لمن أضحى لدارك جارا

يا ليت جارَكَ يعطيني من داره شِبراً *** إذاً لأعطيه بِشْبرٍ دارا

ويقال‏:‏ وإن كانت الدارُ منزهةً عن قبول الجار، وليس القرب منه بتداني الأقطار، فإطلاق هذا اللفظ لقلوب الأحباب مؤنسٌ، بل لو جاز القربُ في وصفه من حيث المسافة لم يكن لهذا كبير أثر، وإنما حياة القلوب بهذا، لأن حقيقته مقدسة عن هذه الصفات؛ فهو لأَجْلِ قلوب الأحباب يُطْلق هذا ويقع العلماء في كد التأويل، وهذا هو أمارة الحب، قال قائلهم‏:‏

أنا من أَجْلِكَ حُمِّلْتُ الأ *** ذى الذي لا أستطيع

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

هذا شرف قدر تلك المنازل حيث قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ وَلِيُّهُم‏}‏ لأنه إذا كان- سبحانه- هو وليَّهم فإنَّ المنازل بأَسرِها طابت كيفما كانت، قال قائلهم‏:‏

أهوى هواها لمن قد كان ساكنها *** وليس في الدار لي همٌّ لا وَطَرُ

هو وليُّهم في دنياهم، ووليُّهم في عقباهم، هو وليهم في أولادهم وفي أخراهم، وليهم الذي استولى حديثه على قلوبهم، فلم يَدَعْ فيها لغيره نصيباً ولا سِوىً وليهم الذي هو أَوْلَى بهم منهم وليُّهم الذي آثرهم على أضرابهم وأشكالهم فآثروه في جميع أحوالهم وليهم الذي تطلب رضاهم، وليهم الذي لم ‏(‏يَكْلهُم‏)‏ إلى هواهم، ولا إلى دنياهم، ولا إلى عقباهم‏.‏

وليُّهم الذي بأفضاله يلاطفهم، وبجماله وجلاله يكاشفهم‏.‏

وليُّهم الذي اختطفهم عن كل حظ ونصيب، وحال بينهم وبين كل حميم وقريب، فحرَّرهم عن كل موصوف ومطلوب ومحبوب، وليُّهم الذي هو مؤنِس أسرارهم‏.‏

مَشَاهِدهُ مُعْتَكِفُ أبصارهم، وحضْرَتهُ مَرْتُع أرواحهم‏.‏

وليُّهم الذي ليس لهم سواه، وليهم الذي لا يشهدون إلا إياه، ولا يجدون إلا إياه، لا في بدايتهم يقصدون غيره، ولا في نهايتهم يجدون غيره، ولا في وسائلهم يشهدون غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏128‏)‏‏}‏

يعتذرون فلا يسمع، ويحتجون بما لا ينفع، ولقد كانوا من قبل لو أتوا بأقلَّ منه قُبِلَ منهم، لكنْ سبقت القسمة فحقت لهم الشقوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

يعني نجمع بين الأشكال، فالأولياء مجموعون يستمتع بعضهم ببعض، والأعداء مجموعون يفرُّ بعضهم من بعض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏130‏)‏‏}‏

عرَّفهم أنه أزاح لهم العِلَلَ من حيث التزام الحجة، لكنه حكم لهم بالشقوة في الأزل، ‏(‏فَلبَّسَ‏)‏ عليهم المحجة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ‏(‏131‏)‏‏}‏

متى يصحُّ في وصفة توهم الظلم والمُلكُ مُلكه والخَلْقُ خلقُه‏؟‏

ومتى يقبح منه تصرُّفٌ في شخصٍ بما أراد، والعبد عبده والحكم حكمه‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

المحسن في روْح الثواب متنعِّم، والمذنب في نوْح العذاب متألم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

الغنيُّ يشير إلى كشفه وذو الرحمة يشير إلى لطفه‏.‏

أخبرهم بقوله الغني عن جلاله، وبقوله‏:‏ ذو الرحمة عن أفضاله؛ فبجلاله يكاشفهم فيُفْتِيهم، وبأفضاله يلاطفهم فيحييهم‏.‏

ويقال سماع غِنَاه يوجِب محوَهم، وسماعه رحمته يوجب صحوهم، فهم في سماع هذه الآية مترددون بين بقاء وبين فناءٍ، وبين إكرام وبين اصطلام، وبين تقريبٍ وبين تذويب، وبين اجتياح وبين ارتياح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

الإشارة من هذه الآية إلى قِصَر الأمل، ومَنْ قصُرَ أملُه حَسُنَ عملُه، وكل ما هو آتٍ فقريبٌ أجَلُه‏.‏